شهد العالم خلال العقود الثلاثة الماضية إدراكا متزايدا بأن نموذج التنمية الحالي (نموذج الحداثة) لم يعد مستداما، بعد أن ارتبط نمط الحياة الاستهلاكي المنبثق عنه بأزمات بيئية خطيرة مثل فقدان التنوع البيئي، وتقلص مساحات الغابات المدارية، وتلوث الماء والهواء، وارتفاع درجة حرارة الأرض(الدفء الكوني)، والفيضانات المدمرة الناتجة عن ارتفاع منسوب مياه البحار والأنهار، واستنفاد الموارد غير المتجددة، مما دفع بعدد من منتقدي ذلك النموذج التنموي إلى الدعوة إلى نموذج تنموي بديل مستدام يعمل على تحقيق الانسجام بين تحقيق الأهداف التنموية من جهة وحماية البيئة واستدامتها من جهة أخرى. وفي هذا السياق يشير كل من سوزان وبيتر كالفرت إلى أن البشرية تواجه في الوقت الحاضر مشكلتين حادتين، تتمثل الأولى في أن كثيرا من الموارد التي نعتبر وجودها الآن من المسلمات معرضة للنفاد في المستقبل القريب، أما الثانية فتتعلق بالتلوث المتزايد الذي تعاني منه بيئتنا في الوقت الحاضر والناتج عن الكم الكبير من الفضلات الضارة التي ننتجها. ونتيجة لذلك فقد أسهمت الضغوط المشتركة لكل من ازدياد الوعي بالندرة القادمة وتفاقم مشكلة السّمية في العالم إلى بروز مسألة الحفاظ على البيئة واستدامتها كموضوع مهم سواء في مجال الفكر أو السياسة (كالفرت و كالفرت 2002: 423). ففي المجال الفكري أسهم الشعور بالوضع المتدهور لبيئة الأرض في ظهور حقل معرفي جديد يعرف بالسياسة الإيكولوجية Ecopolitics التي عرّفها جيوماريز Guimaraes على أنها "دراسة الأنساق السياسية من منظور بيئي"، والذي يعني أن الإلمام بعلم الطبيعة يعتبر بنفس أهمية الإلمام بالعلوم الاجتماعية والثقافية والسياسية عند دراسة الأنساق الإيكولوجية وقدراتها(نقلا عن: كالفرت وكالفرت 2002: 423). ولذلك فإن شيوع فكرة التنمية المستدامة في أدبيات التنمية السياسية منذ منتصف ثمانينات القرن العشرين مثل في جزء منه محاولة لتجاوز إخفاق النظرية السلوكية في مجال التنمية، التي تبنت نموذج الحداثة، والبحث عن نموذج جديد يعمل على التوفيق بين متطلبات التنمية والحفاظ على بيئة سليمة ومستدامة.
أما على المستوى السياسي فقد بدأ المجتمع الدولي، منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي، يدرك مدى الحاجة إلى مزيج من الجهود السياسية والعلمية لحل مشاكل البيئة وعندها أصبح مفهوم التنمية المستدامة يمثل نموذجا معرفيا للتنمية في العالم، وبدأ يحل مكان برنامج "التنمية بدون تدمير" Development without Destruction الذي قدمه برنامج الأمم المتحدة للبيئة UNEP في السبعينات ومفهوم "التنمية الإيكولوجية" Ecodevelopment الذي تم تطبيقه في الثمانينات. ووصل الاهتمام العالمي بالقضية البيئية ذروته مع تبني مفهوم التنمية المستدامة على نطاق عالمي في مؤتمر قمة الأرضEarth Summit الذي عقد في مدينة ريو دي جانيرو عام 1992م. وقد برز هذا الاهتمام العالمي بقضية البيئة بوضوح في تأكيد منهجية التنمية الإنسانية، وفقا لتقرير التنمية الإنسانية العالمي الصادر عام 1995، على عنصر الاستدامة، من خلال التأكيد على عدم إلحاق الضرر بالأجيال القادمة سواء بسبب استنزاف الموارد الطبيعية وتلويث البيئة أو بسبب الديون العامة التي تتحمل عبئها الأجيال اللاحقة أو بسبب عدم الاكتراث بتنمية الموارد البشرية مما يخلق ظروفاً صعبة في المستقبل نتيجة خيارات الحاضر(UNDP 1995).
وتحاول حركة الاستدامة اليوم تطوير وسائل اقتصادية وزراعية جديدة تكون قادرة على تلبية احتياجات الحاضر وتتمتع باستدامة ذاتية على الأمد الطويل، خاصة بعدما أتضح أن الوسائل المستخدمة حاليا في برامج حماية البيئة القائمة على استثمار قدر كبير من المال والجهد لم تعد مجدية نظرا لأن المجتمع الإنساني ذاته ينفق مبالغا وجهودا أكبر في شركات ومشاريع تتسبب في إحداث مثل تلك الأضرار. وهذا التناقض القائم في المجتمع الحديث بين الرغبة في حماية البيئة واستدامتها وتمويل الشركات والبرامج المدمرة للبيئة في الوقت نفسه هو الذي يفسر سبب الحاجة الماسة لتطوير نسق جديد مستدام يتطلب إحداث تغييرات ثقافية واسعة فضلا عن إصلاحات زراعية واقتصادية.
اعداد الباحث : أ. منصور عزت ابو ريدة / 13/7/2012 م ، القدس الشريف
أما على المستوى السياسي فقد بدأ المجتمع الدولي، منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي، يدرك مدى الحاجة إلى مزيج من الجهود السياسية والعلمية لحل مشاكل البيئة وعندها أصبح مفهوم التنمية المستدامة يمثل نموذجا معرفيا للتنمية في العالم، وبدأ يحل مكان برنامج "التنمية بدون تدمير" Development without Destruction الذي قدمه برنامج الأمم المتحدة للبيئة UNEP في السبعينات ومفهوم "التنمية الإيكولوجية" Ecodevelopment الذي تم تطبيقه في الثمانينات. ووصل الاهتمام العالمي بالقضية البيئية ذروته مع تبني مفهوم التنمية المستدامة على نطاق عالمي في مؤتمر قمة الأرضEarth Summit الذي عقد في مدينة ريو دي جانيرو عام 1992م. وقد برز هذا الاهتمام العالمي بقضية البيئة بوضوح في تأكيد منهجية التنمية الإنسانية، وفقا لتقرير التنمية الإنسانية العالمي الصادر عام 1995، على عنصر الاستدامة، من خلال التأكيد على عدم إلحاق الضرر بالأجيال القادمة سواء بسبب استنزاف الموارد الطبيعية وتلويث البيئة أو بسبب الديون العامة التي تتحمل عبئها الأجيال اللاحقة أو بسبب عدم الاكتراث بتنمية الموارد البشرية مما يخلق ظروفاً صعبة في المستقبل نتيجة خيارات الحاضر(UNDP 1995).
وتحاول حركة الاستدامة اليوم تطوير وسائل اقتصادية وزراعية جديدة تكون قادرة على تلبية احتياجات الحاضر وتتمتع باستدامة ذاتية على الأمد الطويل، خاصة بعدما أتضح أن الوسائل المستخدمة حاليا في برامج حماية البيئة القائمة على استثمار قدر كبير من المال والجهد لم تعد مجدية نظرا لأن المجتمع الإنساني ذاته ينفق مبالغا وجهودا أكبر في شركات ومشاريع تتسبب في إحداث مثل تلك الأضرار. وهذا التناقض القائم في المجتمع الحديث بين الرغبة في حماية البيئة واستدامتها وتمويل الشركات والبرامج المدمرة للبيئة في الوقت نفسه هو الذي يفسر سبب الحاجة الماسة لتطوير نسق جديد مستدام يتطلب إحداث تغييرات ثقافية واسعة فضلا عن إصلاحات زراعية واقتصادية.
اعداد الباحث : أ. منصور عزت ابو ريدة / 13/7/2012 م ، القدس الشريف